الباحث : مايكل وود
في عالمنا اليوم نحن ننظر الى حضارتي اليونان والرومان على أنهما الجذور الأولى.ولكن ،كما يذكرنا مايكل وود، فإن الحياة المتحضرة بدأت في العراق قبل 4000 سنة من كلتا الحضارتين.الخروج من السماوة شمالاً باتجاه بغداد، هناك طريق قصير يبدأ من الشارع الرئيس خلف جسر على الفرات،
وهو طريق متعرج يتجه شرقاَ الى المفازات الريفية. حالاً، سوف تدخل الى الصحراء الحقيقية المغطاة بالكثبان الرملية. ثم، بعد زهاء60 كم، ينكشف أمامك المشهد المطلوب.
وأنت تخرج من أفق الضباب، تترآى أمام عينك مجموعة من التلال الرمادية المنخفضة. أعلاها يأخذ شكل زقورة متآكلة الجذع، أنها زقورة الإلهة عشتار والإله أنو (سيد السماء)، إنها الوركاء، موقع لا يماثله موقع آخر على الأرض، ومعلم بارز في قصة الإنسان.
كان وليام لوفتس ، أول أجنبي في العصر الحديث يرى هذه المشاهد في سنة 1849 ، لقد كتب مصدوماً تقريباً : "من أول وهلة لا أعرف أي شيء أكثر إثارة للإعجاب من هذه البقايا الكلدانية ، تلوح في الأفق في عظمة متفردة بين السهول والمستنقعات المحيطة بها....من بين جميع المدن والمواقع القديمة لم أر في حياتي مدينة تفوق الوركاء روعةً،قياساً بالمدن جميعاً".
4000 سنة من التاريخ
اسمها "أوروك" في الأكدية، وفي السومرية "أونوك"، وفي الكتاب المقدس تسمى "إرك" بينما سمّاها الإغريق"إرخو"، تأسست المدينة في الألف الخامس قبل الميلاد واستمرت إلى الألف الأول بعد الميلاد. حـُكمت لاحقاً من قبل الرومان المقدونيين والفرثيين والعرب ثم المسلمين حتى هجرت تماماً في القرن السابع الميلادي، ليستوطنها البدو التي لاتزال خيامهم السود تعانق الأفق. إلى أي مدى كانت أوروك "الوركاء" حقاً "أم المدن"، ذلك جدل ما زال حامياً بين علماء الآثار. إنها كانت مهد اختراع الكتابة والرياضيات والأدب، بل هي واحدة من أهم وأفضل الأماكن في ذاكرة البشرية.
إن حجم الموقع هو شهادة على حجم المنجزات في بلاد وادي الرافدين، الحضارة الأولى في العالم. داخل بواباتها الطينية، تتجمع الكثبان الرملية الضخمة . كانت المدينة في الألف الثالث قبل الميلاد دائرية الشكل قطرها بحدود 3 كم، بينما محيطها حوالي 9 كم. كشفت جهود علماء الآثار في القرن الماضي عن مصاطب ومنصات وأسوار عظيمة مبنية من الآجر المفخور كأنها أسس لناطحات السحاب. في أماكن تنخفض بحدود 75 قدماً(22 م)عن أقدام الزوار يمكن رؤية بقايا تاريخ البشرية: الزجاج الإسلامي، الأواني الهلنستية، توابيت الطين من الفترة الفرثية، كسر من فخار فترة العـُبيد الأسود المخضر، والمناجل الفخارية التي استخدمها سكان السهل الرسوبي في الألف السادس قبل الميلاد. في مثل هذا المكان توجد صورة وقصة الحضارة: في بداياتها، نموها، ازدهارها وانتصاراتها، وربما نهايتها أيضاً.
مثل ثقافات وادي نهر النيل ونهر الهندوس، كسبت بلاد وادي الرافدين وجودها من خلال نظام نهري. بدأت المجتمعات البشرية الكبيرة في النمو منذ نحو عشرة آلاف سنة قبل الميلاد. جغرافياً، يمكن وصف ظهورها بقوس حضاري يبدأ من جبال زاجروس، الأناضول، سوريا ثم فلسطين، بدءاً من المستوطنات في كل من أريحا في فلسطين وجاتل هيوك في تركيا، لكن هذه المستوطنات كانت صغيرة نسبياً. كان التطور الأهم في الجزء الجنوبي من بلاد وادي الرافدين هو ظهور تقنيات الري المتطورة التي ساهمت في فتح آفاق مهمة لعملية تركيز كبير في الموارد والبشر.لكن حتى هذا التطور كان لا يزال محصوراً نسبياً في منطقة من الأراضي المروية التي تقدر بـ 25 ألف كم مربع، مماثلة في الحجم للأراضي المروية في مصر خلال عصر السلالة المبكرة.
ظهرت أولى المدن والدول في الألف الرابع قبل الميلاد. مدن ودول أثرت ثقافاتها ومجتمعاتها في كل جانب من جوانب الحياة، ليس فقط في غرب آسيا، بل في مناطق بعيدة.
في الألف الثالث قبل الميلاد، كان هناك 40 مدينة في بلاد سومر وأكد على امتداد السهل البابلي. كانت لجش (تلول الهباء في محافظة ذي قار، المترجم)، واحدة من دويلات المدن الكبيرة، التي يبلغ طولها 4 كم، كان فيها 36 الفاً من الذكور البالغين في الألف الثالث قبل الميلاد، مما يؤشر ان نفوس المدينة كان نحو مئة ألف نسمة.
ربما كانت أوروك بالحجم نفسه. كل واحدة من دويلات المدن كانت تسيطر على مساحة من الارض، دويلة نيبور(نفر الحالية في الديوانية: المترجم)، على سبيل المثال، كانت تضم 200 قرية فرعية تنتشر على طول خمس قنوات ري رئيسة و60 قناة صغيرة. كلها تخضع لقوانين وأعراف ومراقبة دقيقة.
هذه المراكز الحضرية المتطورة كانت تستفيد من شبكة تجارية، التي ،في حالة أوروك، ترتبط مع تركيا، سوريا، وجبال زاجروس. تـُظهر الابحاث الحالية ان بلاد وادي الرافدين، ربما، لم تكن فقط الموضع الأول لولادة الثقافة التجارية في العالم، بل كانت أيضاً أول مكان خاص بالمعاهدات والأسواق التجارية.ليس من المستغرب بعد ذلك ان يتم اختراع الكتابة، القوانين المكتوبة، قوانين العقود والمعاهدات الدولية لأول مرة في المنطقة. ليس التاريخ وحده يبدأ في سومر، بل الاقتصاد كذلك.
الفن والحرب
إذن من هم أولئك الذين حققوا هذا الإنجاز في تاريخ البشرية؟ كان السومريون هم سكان السهل الرسوبي في جنوب العراق خلال عصور ما قبل التاريخ. على الرغم من وجود العديد من النظريات، فإن انتماءهم العرقي واللغوي لم يتـّـضح بعد، ولغتهم لا علاقة لها بأية لغة معروفة.
في الألف الثالث قبل الميلاد، حدث تواصل وترابط ثقافي وثيق بين السومريين والأكديين، الذين عاشوا في وسط السهل الرسوبي، في المنطقة التي تقع حول وجنوب بغداد الحالية. كان العديد من المنجزات الحضارية في بلاد وادي الرافدين نتاجاً لهذا التعايش. انتهت اللغة السومرية بوصفها لغة حية في نحو 1600 قبل الميلاد، لكنها بقيت متداولة بين العلماء والأدباء والكهنة. بمرور الوقت، وصلنا آخر نص سومري مستنسخ في الفترة الهلنستية في القرن الثاني قبل الميلاد، حيث حلت محلها اللغة الأكدية كلغة للأدب قي بلاد وادي الرافدين. اختفى السومريون واختلطوا في مزيج عراقي قديم متعدد الأعراق. عندما أجريت الحفريات في العراق في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، كان شائعاً بأن الجذورالثقافية للحضارة الغربية هما الحضارتان: الأغريقية والرومانية في العصور الكلاسيكية بالإضافة الى ثقافة الديانتين: اليهودية والمسيحية.
على الرغم من أن سفر التكوين ذكر أوروك، أكد وبابل، إلاّ انه (سفر التكوين) لم يذكر اعتبارهما أقدم الحضارات والتي كانت ذات تأثير عظيم على حضارات الشرق الأدنى القديم وحوض البحر المتوسط. في ذلك الوقت (منتصف القرن التاسع عشر) لم يكن معروفاً ان بلاد وادي الرافدين هي صاحبة السبق في اختراع الكتابة والأدب، الرياضيات والفلك، العلوم والهندسة، وفي اختراع العجلة وأقدم قانون وشريعة. حتى اليوم، نحن نحسب الوقت والمكان استناداً إلى مضاعفات العددين 12 و 60 اللذين هما من اختراع سكان بلاد وادي الرافدين.
صراع وإبداع
إذاً كانت بلاد وادي الرافدين هي المكان الأول للإبداع الثقافي والتقني، فإنها ايضاً موقع للصراع الدائم، مع عدم وجود طبيعة تحميها من أقاليم ودول الجوار، فإنها كانت دائماً مفتوحة أمام هجمات الهمج والغزاة من الخارج، وداخلياً كانت فريسة للنزاع المستمر على الموارد، خصوصاً المياه. ليس من المستغرب، إذن، أن نرى أول قانون منظم في التاريخ، وأول حرب منظمة أيضاً.
كان تاريخ بلاد وادي الرافدين مزيجاً من الإبداع الفريد المميـَّز والعنف والدمار المميـَّزين ايضاً، تاريخ معلـّم بالغزوات والحروب المدمرة، كما هو معلـّم بالإنجازات العظيمة التي طالما تحطمت لمراتٍ عديدة. منذ الخراب الذي لحق بسلالة أور الثالثة مروراً بالدمار الذي أحدثه المغول والتتار والسلاجقة، وصولاً الى وحشية الحروب الأخيرة. مع ذلك، خلال جميع هذه الصراعات نجت حضارة واحدة معترف بها اسمها " الحضارة أو الثقافة العراقية" أو كما أسماها المؤرخ الفرنسي فرنارد بروديل " المصير المـُفرد" ، شخصية عراقية ربما تكون مختلفة عن الشخصية المصرية المتفائلة مثلاً. كان أوائل العراقيين متشائمين في نظرتهم الى مصير الإنسان. عرف شعراؤها مبكراً ان المنجزات الإنسانية هي منجزات هشـّة، مقدّر لها أن تكون دائماً معرضة للمحو والمسح. هذه الرؤية طبعت أوائل الشعر العالمي( الشعر الرافديني) حتى وصل تأثيرها الى الشعر العراقي الحديث. ربما هذا يفسـّر لنا لماذا أصبح الرثاء تقليداً في الطقوس العراقية القديمة والمعاصرة. طابع ميـّز العراقيين عن باقي العرب. كيف ومتى انتهت الحضارة العراقية العظيمة؟. تجدر الإشارة الى أنه لا يوجد في الثقافة العراقية خط واضح يفصل بين العالم القديم والعصور الوسطى. تبدو حملة الإسكندر سنة 331 قبل الميلاد، تبدو وكأنها انتهت على الورق. لكن في واقع الحال إن العصر الذي شهد نهاية الحضارة العراقية العظيمة (سقوط وانهيار بابل سنة 539 قبل الميلاد، المترجم) كان مفتتحاً لألف سنة من الثقافة الهيلينية متعددة اللغات التي امتدت في منطقة شاسعة بقدر الهند.
يبدو أن الفتح العربي للعراق كان أخر نقطة تحول ثقافي، ولكن حتى ذلك الحين، كان التغيير بطيئاً، كان التأثير مباشراً ومنصباً على العقول أكثر منه على الأعراف والثقافة المادية. كما ورثت المسيحية الامبراطورية الرومانية، ورث الإسلام ثقافة منطقة غرب آسيا والشرق الأدنى القديم. وبهذا المعنى يمكن اعتبار الإسلام مجرد استمرار وبناء لثقافة أقدم. كانت بغداد عاصمة الخلافة العظيمة التي تأسست في سنة 762 ميلادية، المدينة الواسعة في بلاد وادي الرافدين ، كانت مبنية من الطوب المحروق (الآجر المفخور) على غرار الطريقة الرافدينية القديمة. وإذا كان التغيير بطيئاً في بغداد، فإنه كان أبطأ حتى في المدن القديمة، على سبيل المثال، مدينة نيبور المقدسة. واصلت بغداد لتكون مركزاً للعلماء المسلمين والمسيحيين واليهود. كان استمراراً للمدينة العراقية القديمة بأزقتها المكتظة التي تشبه اربيل او كركوك اليوم، مدينة تضم المساجد والكنائس والمعابد، ويوجد فيها المتعبد الصوفي والمحامي التلمودي. استمر نشاط الريف العراقي القديم حتى القرن الحادي عشر الميلادي، حيث القبائل في جنوب السهل الرسوبي تعبد آلهة الماء البدائية، وحيث مسكن "إنكي" إله سومر القديمة. في العراق، كان الغزو المغولي سنة 1285 ميلادية هو الخط الفاصل الحقيقي بين العالمين: القديم والحديث، عندما دُمّر نظام الري القديم وهلك الناس في البلاد الشاسعة. لكن حتى في ذلك الحين، لم ينته العالم القديم. اليوم، في شوارع النجف، خلال طقوس عاشوراء، لايزال الناس يمارسون المرثيات والشعائر ويستعيدون سمة من سمات ثقافتهم القديمة. وصف هيرودوتس الملابس التقليدية البابلية بانها " دشداشة وكوفية" هو ما يمكن رؤيته اليوم في أي مكان في العراق.
ثمة جانب آخر من النفوذ الثقافي العراقي القديم، هو تأثيره على الأدب الغربي والعربي. إن إعادة اكتشاف التراث والأدب العراقي القديم في القرن التاسع عشر، اظهر عمق الصلات والتأثير على الكتاب المقدّس: قصة الطوفان، نوح، برج بابل، وجنة عدن، كانت هذه قصص تلاها العهد القديم في رؤية حزقيال البابلي" الشبه ومجد الله"، وهذا كله تراث رافديني.
لكن العلماء أبطأوا في تبيان حقيقة أن الأدب العربي والأغريقي كان مليئاً بالأفكار والصور والقصص الرافدينية، خصوصاً ملحمة جلجامش،الملك الأسطوري لمدينة أوروك، التي قد تكون العمل الوحيد المتفرد الذي أثر في الأدب العالمي. من الواضح الآن ، على سبيل المثال ، أن الكثير من حكايات الليالي العربية هي مستمدة من الحكايات العراقية القديمة التي تم تناقلها شفويا لمدة طويلة. الشيء نفسه ينطبق على سعي جلجامش العظيم في البحث عن سر الحياة الأبدية ، رحلة الروح هذه التي تبلورت في قصص العصور الوسطى وحتى الصوفية الإسلامية ، كما يبدو ، وصلت إلى جحيم دانتي. الأدب اليوناني المبكر- خصوصاً ملحمة هوميروس ،هيسيود، والأدب الملحمي التقليدي- قد تأثر بشدة من حيث الشكل والمحتوى بملحمة جلجامش. باختصار، فإن الحضارة العراقية القديمة لاتزال ماثلة ليس فقط في طرق تفكيرنا وحساب الوقت والقياس، بل في القصص التي نحب.بلاد وادي الرافدين في عصر صدّام
في عصر صدّام، تم تحييد وعزل تاريخ بلاد وادي الرافدين من قبل نطام البعث: تم تنفيذ مشاريع ترميم واسعة، بعضها مؤثرة (مثل اعمال الصيانة في زقورة أور) والبعض الآخر كان مدفوعاً بجنون العظمة ( مثل إعادة بناء قصر في بابل حيث خَتم الآجر باسم صدّام). واجه المسافرون في أنحاء العراق بالعديد من الصور الجدارية واللوحات الضخمة لصدام حسين، مثلاً : صدام وهو يمتطي حصاناً ابيض يشبه حصان الحسين في كربلاء، أو صورة لصدام وهو يتسلم لوح القدر من الملك آشوربانيبال. لكن حربي عام 1991 و2003 دمرتا تراث البلد الذي لا يضاهى.
بالطبع، شاهدت الأجيال العراقية السابقة، شاهدت الكنوز وهي تنقل الى لندن وباريس وبرلين، لكن ما بقي منها قد مُـني بأضرار جسيمة. نجت من المحنة مدن عظيمة مثل أوروك ونيبور، لكن بابل أصيبت بأضرار بليغة، كما نهبت مواقع معزولة مثل أومـّا القديمة ( موقع جوخا في الناصرية، المترجم)، واحدة من اوائل المدن في العالم ، نهبت بشكل ممنهج. مدينة أومـّا التي تعاني حفريات غير مشروعة، نهبت الألواح الطينية المكتوبة من مكتبات معابدها وتم عرضها في أسواق الفنون. لحقت أضرار بالمكتبة الوطنية العراقية، ودُمـّر أرشيف العراق الحديث.
مثل باقي الحضارات العظيمة، كاليونانية، الهندية، الصينية والفارسية، كان العراق على مدى آلاف السنين قادراً على إعادة تشكيل نفسه، والحفاظ على ثقافته الخاصة والمميزة.
يطلب منا صاحب ملحمة جلجامش أن " اعلُ أسوار أوروك، وامش عليها، وانظر إلى أسس الجدران، أليست هي رائعة؟ ألم يكن الحكماء السبعة أنفسهم مـَن وضع ذلك كله؟".
إعجابه (جلجامش) بالمنجزات البشرية أثار المشاعر ونحن نتجول في أوروك اليوم وهي تقبع تحت نفاث طائرات الحلفاء وسط الدمار في عصرنا.
مايكل وود هو مخرج ومذيع ،عمل في العراق لأكثر من 20 عاماً.
ترجمة : عبد الأمير الحمداني
